إن قضية المواطنة من القضايا التي طرأت على الساحة الإسلامية اليوم، وکثُرت حولها الخلافات والمناقشات، ما بين مدَّع أنها من بنات أفکار الغرب ولم تعرف قبل ذلک في الإسلام، وما بين مدافع عن موقف الإسلام وأنها قضية قديمة عرفتها الحضارة الإسلامية وقننتها، وهي مسطورة ومدونة في کتب التراث الإسلامي، وليس الجديد فيها إلا هذا المسمى الطارئ.
وما بين هذا في ادعائه وهذا في دفاعه لا نجد اهتمامًا حقيقيًا بدراسة موقف الإسلام من المواطنة، سواء من الناحية التأصيلية النظرية، أم من الناحية الحضارية العملية، ومن هنا فقد استعر الخلاف والنقاش، وأتهم المسلمون، ولم يسلم الإسلام ذاته.
ومن هنا أيضًا، فقد أصبح لزامًا على الباحثين أن يشمروا لعمل جدي، يظهرون من خلاله القيم الإسلامية المثلى، والمواقف التاريخية الرفيعة في المنظور الإسلامي للمواطنة؛ يسکتون من خلال ذلک صوت المعتدي المتعالي، ويبرزون جلال المذهبية الإسلامية، وروعة حضارة الإسلام.
إن قضية المواطنة في الإسلام، ليست مجرد قضية إنسانية، مستمدة من القانون الطبيعي، کما يذهب الغرب وإنما هي قضية دينية في المقام الأول، مستمدة من الأصول الشرعية، ومستندة إلى العقيدة الإسلامية، ومؤيدة بأخلاق الإسلام ومثله.
هذه المواطنة التي تعني أول ما تعني أن يکرم الإنسان فلا يهان، وأن تعرف قيمته فلا تهدر "وَلَقَدْ کَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى کَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً". وأن الناس کل الناس أخوة من أصل واحد، لا يضرهم أي اختلاف مهما کان، فهذا الاختلاف في حقيقته سبيل للتعارف والتعاون، لا من أجل تمايز أو تفاضل: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاکُم مِّن ذَکَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاکُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاکُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
هذه المواطنة- الإسلامية- ليست کلمات مسطورة ومدونة، ولا هي مجرد مبادئ تصعب على التطبيق والتنفيذ، وإنما هي حقيقة واقعية عاشتها الأمة الإسلامية، ومما يجعلها کذلک أنها ليست مجرد حقوق تعطى للإنسان ويطالب بها، وإنما هي قبل ذلک واجبات يتحملها ويلتزم بها.
والطبيعي أنه إذا أدى کل مواطن ما عليه من واجبات؛ فإنه بداهة يکون قد حصّل ماله من الحقوق؛ إذ إن الواجبات والحقوق مترابطان، فما هو حق لمواطن، هو في ذات الوقت واجب على آخر.
وإذا کانت المواطنة لا تعدو أن تکون أکثر من علاقة تبادلية بين الوطن والمواطن، الدولة والفرد، الراعي والرعية، هذه العلاقة تتمثل في منظومة من الحقوق والواجبات المتبادلة. فلکي تکون هذه المواطنة، أو تلک العلاقة، حقيقية وفاعلة؛ فإنها لابد أن تکون قائمة على أسس متينة وقواعد راسخة.